<BLOCKQUOTE style="COLOR: black; BACKGROUND-COLOR: white">
هل كان الطموح الخاص هو الذي يحرك هؤلاء؟ ام ان المخاطر التي كانت تحيط بالوطن جعلتهم يمتطون الدبابات ويحملون ارواحهم فوق اكفهم آملين في غد جديد تزهو فيه اوراق الحرية وتورق اشجار العدل والمساواة في بلد كان قدره قبل ان يخرج من استعمار الاجنبي ان حاصرته جيوش التمرد؟.
ورغم ما بذله هؤلاء وهم يكتبون تاريخهم بدمائهم، الا ان كل محاولات التوثيق لم تقترب من الحقيقة الا بمقدار لا بسبب تقصير من حاولوا التوثيق، ولكن لان كثيرا من اسرار تلك الحركات ومن قادوها ظلت طي الكتمان لطبيعة الانقلابات العسكرية نفسها، ولما صاحب الكثير منها من اعدامات لقياداتها والمشاركين فيها وحتى من كتب الله لهم الحياة ظلوا امينين على اسرار رفاقهم خاصة وان معظم هذه الانقلابات كانت وراؤها تنظميات عقائدية وما بين هذا وذاك تظل الحقيقة ضائعة رغم ان من التقيناهم كانوا كريمين معنا وحريصين على الادلاء بشهاداتهم للتاريخ..
في هذه السلسلة التي ستتوالى حلقاتها تباعا سنحاول ان نؤرخ ونوثق للحركات الانقلابية التي لم يقدر لأصحابها الوصول الى ذرى السلطة.
بداية تنفيذ الحركة
قبل ان يفيق الرئيس نميري من غفوته ظهيرة الاثنين 19 يوليو 1971م ، كان صوت الدبابات قد اقترب من المواقع الاستراتيجية في العاصمة القومية، بفضل التوقيت المناسب الذي اختاره قادة الحركة، فكل الانقلابات التي حدثت قبل ذلك كانت تختار ظلام الليل الا ان حنكة الحزب الشيوعي ومقدرته على التنظيم جعلت من التحرك في وضح النهار ممكنا ، ولذلك تحركت القوة الرئيسية التي كمنت تحت ستار التدريب بجبال المرخيات ، نحو الاذاعة و الكلية الحربية ومدرسة المشاه بكرري لم تجد هذه القوة اي مقاومة ، خاصة في الاذاعة التي كان جنود حراستها في حالة استرخاء تام وكان صمام الامان في هذا هو صف ضابط برتبة رقيب اول ضمن قوات الحراسة من عناصر الحركة فعندما اقترب صوت الدبابة من الاذاعة تأهب الجميع للمقاومة،ولكن صوت الرقيب كان حاسماً وهو يشهر سلاحه: «ثابت».
في سلاح المظلات صاحب الدور الفعال في نجاح حركة مايو استخدم المحتلون عنصر المفاجاة والتوقيت السليم للعملية تدعمهم عناصر من اعوانهم داخل السلاح. لم تمض لحظات حتى اقتحمت القوة المعسكر بسرعة مذهلة فاجأت الموجودين بالمعسكر ما بين معتقل ومسرح الى بينه منزوع السلاح. وجلس العقيد عبد المنعم محمد احمد ليقود السلاح ويستخدمه في تأمين الحركة. ولما كان سلاح المدرعات هو اهم سلاح في الانقلابات العسكرية وفي الدفاع عن العاصمة فقد ارسل من يعتقل العقيد سعد بحر ، الذي كان مسؤولا عن القيادة في ذلك الوقت ، نسبة لسفر قائده الاول العميد احمد عبد الحليم ،الذي كان في زيارة الى ليبيا . بعد اعتقال العقيد سعد بحر تيسرت مهمة احتلال المعسكر بواسطة قائده الثالث المقدم محمد احمد الريح ، وقد كان المقدم محمد احمد الريح هو الوحيد الذي رفض الاستسلام ساعة دحر الانقلاب حيث يقول الاستاذ محمد احمد كرار في كتابه الشهير «الانقلابات العسكرية» ان محمد احمد الريح ظل يقاتل ساندا ظهره الى صهريج مياه حتى قتل لذلك لم يطرد من الخدمة بل منح وساما عسكريا للشجاعة وتمت تسوية مخصصاته كضابط شهيد وتمت ترقيته الى الرتبة الاعلى رتبة العقيد.
واحتلت بقية القوة الاتية من المرخيات سلاح المهندسين وسلاح النقل بالخرطوم بحري وسلاح الاشارة ، كما امنت كباري العاصمة ودار الهاتف والوزارات المهمة.
في ذات الوقت كان الرائد مأمون عوض ابوزيد والرائد ابو القاسم محمد ابراهيم قد خلدا للراحة بعد ان تناولا طعام الغداء مع العقيد عبد المنعم محمد احمد قائد ثاني سلاح المدرعات الذي استأذنهما لقضاء مهمة عاجلة ولم يكن احد منهما يدري ان المهمة العاجلة التي ذهب من اجلها ستسوقهما مع قائدهم النميري الى الاعتقال ، وفي ذلك الوقت كانا يشغلان اهم موقعين في الثورة ، ابو القاسم كان وزيرا للداخلية ومشرفا على جهاز الامن القومي وباعتقالهما تم اخلاء ساحة الامن من قياداتها التي يمكن ان تواجه اي طارئ بقرار سريع وحاسم.
الحرس الجمهوري في الميدان
يبدو ان ذكاء العقيد عثمان حاج حسين ابو شيبة الذي بسببه ترقى الى رتبة العقيد كان عنصرا مهما في نجاح الانقلاب فقد انطلق ابو شيبة من هذه الارضية وهي ارضية الثقة التي جعلته يحتفظ بزعيم الحزب الشيوعي عبد الخالق محجوب في منزله لمدة 19 يوما ظل فيها نميري يبحث عنه خلف كل جحر، وكان ابو شيبة قد اعد لمهمته مبكرا حيث قام باقناع نميري بتغيير حراسة ابو القاسم محمد ابراهيم وزين العابدين محمد احمد ، فبعد ان كان النظام المعمول به هو ان يتولى حراسة كل منهما فرد من السلاح الذي كان يعمل به قبل الثورة اصبح يحرسهم افراد من الحرس الجمهوري وهم تحت امرة ابوشيبة كما قام بتحويل تعليمات الدبابات العاملة مع الحرس الجمهوري الى قيادة الحرس بذلك كان الحرس الجمهوري كله تحت امرة ابوشيبة.
كيف تم اعتقال
الرئيس نميري ورفاقه
على غير المعتاد عاد الرئيس جعفر نميري الى منزله في حوالي الساعة الثانية والنصف بعد يوم عمل مرهق ليرتاح قليلا لانه كان على موعد مع الرائد زين العابدين محمد احمد عبد القادر الذي عاد من زيارة الى مصر تتعلق بميثاق طرابلس وكان برفقته وزير العمل معاوية ابراهيم، بعد ان استقبل الرائدان ابو القاسم محمد ابراهيم ومأمون عوض ابوزيد الوفد العائد من مرسى مطروح ، والذي تزامن مع حضوره وصول وزير الخارجية في ذلك الوقت فاروق ابوعيسى ، توجه الوفد الى منزل الرئيس نميري وهناك انضم اليهم ابو القاسم هاشم ومعاوية ابراهيم ، ثم شرع الجميع في مناقشة تقرير زين العابدين والذي كان قد قضى في القاهرة يومين. وفجأة اقتحم المنزل الملازم اول عبد العظيم عوض سرور شاهراً سلاحه «مدفع رشاش» وخلفه كوكبة من الجنود المدججين بالاسلحة في حالة استعداد لاطلاق النار، حاول ابو القاسم محمد ابراهيم مقاومتهم ولكن نميري قال له : لقد تأخر الوقت قليلا.
كانت اعصاب المجموعة متوترة ومتحفزة بحيث يمكنهم اطلاق النار عند اية بادرة حماقة من المجموعة المراد اعتقالها. سأل نميري اقرب جندي اليه :ألم تكن في حراسة المنزل هذا الصباح؟ فرد بصورة تلقائية بل منذ الخامسة من مساء امس، ولكن سرعان ما تنبه الملازم للحوار فطلب من الجميع التحدث امامهم فورا ، اول ما خطر لنميري ان هذا التحرك تم بواسطة الاحزاب التقليدية الا ان الملازم عند الباب الخارجي سأل نميري: لعلك الان تذكرت الاساءات التي وجهتها لحزبنا ، فسأله نميري : اي حزب ، رد الملازم: الحزب الشيوعي ، فهتف نميري على الفور : يا للحماقة.
هكذا تم اعتقال جميع اعضاء مجلس قيادة الثورة المتواجدين بالسودان ، عدا اللواء خالد حسن عباس فقد كان في زيارة الى موسكو، ومن هناك جرى ترحيلهم بعربة الى القصر الجمهوري حيث تم توزيعهم على غرف وحراسات.
مصير نميري
عندما وصل اللواء نميري وزملاؤه الى القصر الجمهوري فصل عن البقية في حجرة ،منفردا . كان بالحجرة سرير حديدي مفروش رقد عليه ، استيقظ على صوت صخب خارج الباب فانتظر منزعجا ليطل عليه قائد الانقلاب هاشم العطا، وتبادلا النظرات ، وسأله هاشم العطا ان كان يحتاج الى شئ ورد نميري بالنفى ثم استدار هاشم العطا وخرج.
72 ساعة البلاد في قبضة الشيوعيين
قبل ان تغيب شمس ذلك اليوم كانت النقاط المهمة عسكريا تحت رحمة حركة هاشم العطا وكسى الليل العاصمة والسودان كي يتيح للشيوعيين التحرك لاكمال مهمتهم، فاعلن قائد الانقلاب حظر التجول وحالة الطوارئ.
بمجرد انتصار حركة الرائد هاشم العطا ، ظهرت قيادات الحزب الشيوعي الى سطح الاحداث، وقام سكرتير الحزب الاستاذ عبد الخالق محجوب بزيارة الوفد المصري في فندق السودان وطمأنهم على عدم مشاركة البعث في الانقلاب وان الامر لا يعدو سوى حركة تصحيحية لحركة مايو. وظهر معه في تحركاته التجاني الطيب والرشيد نايل ومحمد ابراهيم نقد وآخرون ، اما الشفيع احمد الشيخ الذي احتفظ بعلاقات ودية مع الجناحين للحزب فقد حدد موقفه بشكل واضح تجاه تأييد الحركة الجديدة ودعا لموكب جماهيري ضخم بقيادة اتحاد العمال تأييدا للحركة التصحيحية ، وخرج الموكب في العاشرة من صباح الخميس 22 يوليو،حيث تحرك الموكب من ميدان ابوجنزير واتجه الى القصر الجمهوري حيث ساحة الشهداء التي خاطب فيها الموكب الرائد هاشم العطا والشفيع احمد الشيخ، كان هتاف الجماهير «طبقيون، امميون، سايرين في طريق لينين، يانميري ياجبان الشيوعيون في الميدان. عاش نضال الطبقة العاملة ، الخرطوم ليست مكة».
ثم انهالت برقيات التأييد للنظام الجديد من مختلف انحاء السودان بعد ان دان الامن و استتب للرائد هاشم العطا ، اصدر قرارا جمهوريا الغى بموجبه كل القرارات السابقة ونظم به السلطة الجديدة واجتمع بوكلاء الوزارات واوضح لهم بان حركته التصحيحية للاخطاء والانحرافات التي احدثها نميري ، واعلن تشكيل مجلس الثورة الجديد برئاسة المقدم بابكر النور وهاشم العطا نائبا له ، بموجب ذلك اصدر هاشم العطا قرارات لتأمين الثورة تم بموجبها تسريح جميع الطيارين العاملين بسلاح الطيران واخلى الطائرات من الوقود والسلاح من الذخيرة والصواريخ كما اعطى الخبراء الروس اجازة في منازلهم، واعتبر تسريح ضباط الطيران تسريحا نهائيا ، واعتقل اغلبهم ، في لندن التي كان يزورها المقدم بابكر النور والرائد فاروق حمد الله عقدا مؤتمرا صحفيا اجابا فيه على اسئلة الصحفيين بانهم لم يكونوا يؤقتون للثورة في هذا الوقت لكن الزميل هاشم العطا رأى تقديم الوقت ونجح فيه كما اكد المقدم بابكر النور بأنهم سيطبقون الاشتراكية العلمية ، لقى الانقلاب تأييدا خارجيا حيث كتبت مجلة الازمنة الحديثة السوفيتية في عددها الصادر يوم الاربعاء 21/7/1971 مقالا اكد تأييد الانقلاب وخطه اليساري التقدمي ، كما استقبل قادة الانقلاب وفدا مصريا يساريا بقيادة احمد حمروش رئيس تحرير مجلة روز اليوسف واحمد فؤاد مدير بنك مصر وكلاهما اصدقاء لقادة الحزب الشيوعي.
اعتقال رئيس مجلس الثورة
مهد الطريق لعودة نميري
علاقة الرئيس جعفر محمد نميري بالجماهيرية الليبية وقائد ثورتها العقيد معمر القذافي مهدت الطريق الى عودة نميري للحكم من جديد فبعد ان وصلت معلومات تفيد بان عضوي مجلس الثورة المقدم بابكر النور والرائد فاروق حمد الله على متن طائرة الخطوط الجوية البريطانية المتجهة الى الخرطوم عن طريق فرانكفورت ر وما، اعدت الترتيبات لانزال الطائرة في مطار بنينه ببنغازي كما اعد لاعتقال بابكر النور وفاروق حمد الله وحينما اشارت الساعة الى التاسعة من صباح الخميس 22/7/1971م كان كل شيء قد تم واعتقل الوفد واقلعت الطائرة بدونهم.
ما سهل عملية الاعتقال هو ان السفرية كانت عادية وان الحجة التي سبقت الاتصال بقائد الطائرة كانت تقول بضرورة الهبوط للتزود بالوقود ورغم صحة معلومات اغلاق مطار الخرطوم الا ان برج المراقبة كانت لديه الاوامر بفتح المطار لطائرتين ، طائرة الخطوط الجوية البريطانية التي تحمل الوفد . وطائرة الخطوط التشيكية التي تحمل عضو مجلس قيادة الثورة محمد محجوب عثمان الذي كان يتعالج هناك ، وما شجع السلطات الليبية على اعتقال الوفد هو وجود اللواء خالد حسن عباس بطرابلس يوجه النداءات للجيش السوداني باعتباره قائده العام ووزير الدفاع ونائب رئيس مجلس الثورة ، وقد كان خالد قبل مشاركته في انقلاب مايو ضابطامحترما بسلاح المدرعات وقد رقي استثنائيا الى رتبة اللواء وتولى قيادة الجيش ونائب رئيس مجلس الثورة بعد اقصاء بابكر عوض الله لاتجاهاته المؤيدة للحزب الشيوعي ، وكان خالد بهذه المواصفات يكتسب في نفوس جنوده وضباطه بسلاح المدرعات والجيش السوداني نفوذا متزايدا واعجابا بصفات عسكرية فيه واخلاقية عنده.
كان خالد حسن عباس على رأس وفد يضم وزيرين وثلاثة ضباط واحمد سليمان المحامي سفير السودان بموسكو ولما لم يتحصل الوفد على تأشيرة دخول من السفارة الروسية في لندن توجه الوفد الى الصين عن طريق يوغسلافيا التي وصلها يوم 17/7/1971م وقبل ان يغادر الوفد الى الصين وصلهم خبر الانقلاب ليقرر الوفد تغيير اتجاهه نحو القاهرة التي اجتمع فيها خالد بقائد الجيش المصري الفريق محمد احمد صادق مطالبا فيها باستخدام الجيش المرابط في قناة السويس ، وطلب طائرات لذلك ، ولكن الرئيس السادات رأى ان يتوجه خالد الى ليبيا ليبث منها نداءات للجيش حتى لا يتم احراج السلطات المصرية وان تتحرك قوات الجيش السوداني في قناة السويس عبر ليبيا . بقي ان نعرف ان هذه القوات وصلت يوم الجمعة 22/7/1971م بعد ان رجع النظام للحكم.
حينما كان المذيع ذو النون بشرى يقدم لقاء اذاعيا مع الشاعر محجوب شريف الذي كتب اناشيد مايو الثورية ، والمعروف ان محجوب شريف والفنان محمد وردي قدما العديد من الاناشيد التي تمجد نظام مايو.
وقبل ان يكمل محجوب شريف مقاطع قصيدته التي تبرأ فيها من مايو «لاك حارسنا لاك فارسنا» حتى انبرى المذيع عبد الرحمن احمد محمد صالح قاطعا الارسال موجها نداءات للجماهير للخروج للشارع وانقاذ الثورة من تدخل اجنبي ثم اذيع خبر اعتقال الوفد في ليبيا وانزال بابكر النور وفاروق حمد الله بالقوة.
وكانت الهتافات تقترب من القصر الجمهوري «عائد عائد يانميري» ووسط الرصاص المنهمر من هنا وهناك وصوت الدبابات قفز نميري فوق اسوار القصر الجمهوري بجلبابه الذي اعتقل به حاسر الرأس حافي القدمين وفي الطريق انتبهت الجماهير الى قائدها وحملته وهي تهتف حتى حمله احد المواطنين بعربته في طريقه للشجرة و قبل ان يصل الى الشجرة حملته دبابة المقدم صلاح عبد العال مبروك ومن المدرعات الى الاذاعة والتلفزيون معلنا عودة مايو ثم عاد الى كرسيه في القيادة العامة قائدا للجيش ورئيسا لمجلس الثورة .
</BLOCKQUOTE>
هل كان الطموح الخاص هو الذي يحرك هؤلاء؟ ام ان المخاطر التي كانت تحيط بالوطن جعلتهم يمتطون الدبابات ويحملون ارواحهم فوق اكفهم آملين في غد جديد تزهو فيه اوراق الحرية وتورق اشجار العدل والمساواة في بلد كان قدره قبل ان يخرج من استعمار الاجنبي ان حاصرته جيوش التمرد؟.
ورغم ما بذله هؤلاء وهم يكتبون تاريخهم بدمائهم، الا ان كل محاولات التوثيق لم تقترب من الحقيقة الا بمقدار لا بسبب تقصير من حاولوا التوثيق، ولكن لان كثيرا من اسرار تلك الحركات ومن قادوها ظلت طي الكتمان لطبيعة الانقلابات العسكرية نفسها، ولما صاحب الكثير منها من اعدامات لقياداتها والمشاركين فيها وحتى من كتب الله لهم الحياة ظلوا امينين على اسرار رفاقهم خاصة وان معظم هذه الانقلابات كانت وراؤها تنظميات عقائدية وما بين هذا وذاك تظل الحقيقة ضائعة رغم ان من التقيناهم كانوا كريمين معنا وحريصين على الادلاء بشهاداتهم للتاريخ..
في هذه السلسلة التي ستتوالى حلقاتها تباعا سنحاول ان نؤرخ ونوثق للحركات الانقلابية التي لم يقدر لأصحابها الوصول الى ذرى السلطة.
بداية تنفيذ الحركة
قبل ان يفيق الرئيس نميري من غفوته ظهيرة الاثنين 19 يوليو 1971م ، كان صوت الدبابات قد اقترب من المواقع الاستراتيجية في العاصمة القومية، بفضل التوقيت المناسب الذي اختاره قادة الحركة، فكل الانقلابات التي حدثت قبل ذلك كانت تختار ظلام الليل الا ان حنكة الحزب الشيوعي ومقدرته على التنظيم جعلت من التحرك في وضح النهار ممكنا ، ولذلك تحركت القوة الرئيسية التي كمنت تحت ستار التدريب بجبال المرخيات ، نحو الاذاعة و الكلية الحربية ومدرسة المشاه بكرري لم تجد هذه القوة اي مقاومة ، خاصة في الاذاعة التي كان جنود حراستها في حالة استرخاء تام وكان صمام الامان في هذا هو صف ضابط برتبة رقيب اول ضمن قوات الحراسة من عناصر الحركة فعندما اقترب صوت الدبابة من الاذاعة تأهب الجميع للمقاومة،ولكن صوت الرقيب كان حاسماً وهو يشهر سلاحه: «ثابت».
في سلاح المظلات صاحب الدور الفعال في نجاح حركة مايو استخدم المحتلون عنصر المفاجاة والتوقيت السليم للعملية تدعمهم عناصر من اعوانهم داخل السلاح. لم تمض لحظات حتى اقتحمت القوة المعسكر بسرعة مذهلة فاجأت الموجودين بالمعسكر ما بين معتقل ومسرح الى بينه منزوع السلاح. وجلس العقيد عبد المنعم محمد احمد ليقود السلاح ويستخدمه في تأمين الحركة. ولما كان سلاح المدرعات هو اهم سلاح في الانقلابات العسكرية وفي الدفاع عن العاصمة فقد ارسل من يعتقل العقيد سعد بحر ، الذي كان مسؤولا عن القيادة في ذلك الوقت ، نسبة لسفر قائده الاول العميد احمد عبد الحليم ،الذي كان في زيارة الى ليبيا . بعد اعتقال العقيد سعد بحر تيسرت مهمة احتلال المعسكر بواسطة قائده الثالث المقدم محمد احمد الريح ، وقد كان المقدم محمد احمد الريح هو الوحيد الذي رفض الاستسلام ساعة دحر الانقلاب حيث يقول الاستاذ محمد احمد كرار في كتابه الشهير «الانقلابات العسكرية» ان محمد احمد الريح ظل يقاتل ساندا ظهره الى صهريج مياه حتى قتل لذلك لم يطرد من الخدمة بل منح وساما عسكريا للشجاعة وتمت تسوية مخصصاته كضابط شهيد وتمت ترقيته الى الرتبة الاعلى رتبة العقيد.
واحتلت بقية القوة الاتية من المرخيات سلاح المهندسين وسلاح النقل بالخرطوم بحري وسلاح الاشارة ، كما امنت كباري العاصمة ودار الهاتف والوزارات المهمة.
في ذات الوقت كان الرائد مأمون عوض ابوزيد والرائد ابو القاسم محمد ابراهيم قد خلدا للراحة بعد ان تناولا طعام الغداء مع العقيد عبد المنعم محمد احمد قائد ثاني سلاح المدرعات الذي استأذنهما لقضاء مهمة عاجلة ولم يكن احد منهما يدري ان المهمة العاجلة التي ذهب من اجلها ستسوقهما مع قائدهم النميري الى الاعتقال ، وفي ذلك الوقت كانا يشغلان اهم موقعين في الثورة ، ابو القاسم كان وزيرا للداخلية ومشرفا على جهاز الامن القومي وباعتقالهما تم اخلاء ساحة الامن من قياداتها التي يمكن ان تواجه اي طارئ بقرار سريع وحاسم.
الحرس الجمهوري في الميدان
يبدو ان ذكاء العقيد عثمان حاج حسين ابو شيبة الذي بسببه ترقى الى رتبة العقيد كان عنصرا مهما في نجاح الانقلاب فقد انطلق ابو شيبة من هذه الارضية وهي ارضية الثقة التي جعلته يحتفظ بزعيم الحزب الشيوعي عبد الخالق محجوب في منزله لمدة 19 يوما ظل فيها نميري يبحث عنه خلف كل جحر، وكان ابو شيبة قد اعد لمهمته مبكرا حيث قام باقناع نميري بتغيير حراسة ابو القاسم محمد ابراهيم وزين العابدين محمد احمد ، فبعد ان كان النظام المعمول به هو ان يتولى حراسة كل منهما فرد من السلاح الذي كان يعمل به قبل الثورة اصبح يحرسهم افراد من الحرس الجمهوري وهم تحت امرة ابوشيبة كما قام بتحويل تعليمات الدبابات العاملة مع الحرس الجمهوري الى قيادة الحرس بذلك كان الحرس الجمهوري كله تحت امرة ابوشيبة.
كيف تم اعتقال
الرئيس نميري ورفاقه
على غير المعتاد عاد الرئيس جعفر نميري الى منزله في حوالي الساعة الثانية والنصف بعد يوم عمل مرهق ليرتاح قليلا لانه كان على موعد مع الرائد زين العابدين محمد احمد عبد القادر الذي عاد من زيارة الى مصر تتعلق بميثاق طرابلس وكان برفقته وزير العمل معاوية ابراهيم، بعد ان استقبل الرائدان ابو القاسم محمد ابراهيم ومأمون عوض ابوزيد الوفد العائد من مرسى مطروح ، والذي تزامن مع حضوره وصول وزير الخارجية في ذلك الوقت فاروق ابوعيسى ، توجه الوفد الى منزل الرئيس نميري وهناك انضم اليهم ابو القاسم هاشم ومعاوية ابراهيم ، ثم شرع الجميع في مناقشة تقرير زين العابدين والذي كان قد قضى في القاهرة يومين. وفجأة اقتحم المنزل الملازم اول عبد العظيم عوض سرور شاهراً سلاحه «مدفع رشاش» وخلفه كوكبة من الجنود المدججين بالاسلحة في حالة استعداد لاطلاق النار، حاول ابو القاسم محمد ابراهيم مقاومتهم ولكن نميري قال له : لقد تأخر الوقت قليلا.
كانت اعصاب المجموعة متوترة ومتحفزة بحيث يمكنهم اطلاق النار عند اية بادرة حماقة من المجموعة المراد اعتقالها. سأل نميري اقرب جندي اليه :ألم تكن في حراسة المنزل هذا الصباح؟ فرد بصورة تلقائية بل منذ الخامسة من مساء امس، ولكن سرعان ما تنبه الملازم للحوار فطلب من الجميع التحدث امامهم فورا ، اول ما خطر لنميري ان هذا التحرك تم بواسطة الاحزاب التقليدية الا ان الملازم عند الباب الخارجي سأل نميري: لعلك الان تذكرت الاساءات التي وجهتها لحزبنا ، فسأله نميري : اي حزب ، رد الملازم: الحزب الشيوعي ، فهتف نميري على الفور : يا للحماقة.
هكذا تم اعتقال جميع اعضاء مجلس قيادة الثورة المتواجدين بالسودان ، عدا اللواء خالد حسن عباس فقد كان في زيارة الى موسكو، ومن هناك جرى ترحيلهم بعربة الى القصر الجمهوري حيث تم توزيعهم على غرف وحراسات.
مصير نميري
عندما وصل اللواء نميري وزملاؤه الى القصر الجمهوري فصل عن البقية في حجرة ،منفردا . كان بالحجرة سرير حديدي مفروش رقد عليه ، استيقظ على صوت صخب خارج الباب فانتظر منزعجا ليطل عليه قائد الانقلاب هاشم العطا، وتبادلا النظرات ، وسأله هاشم العطا ان كان يحتاج الى شئ ورد نميري بالنفى ثم استدار هاشم العطا وخرج.
72 ساعة البلاد في قبضة الشيوعيين
قبل ان تغيب شمس ذلك اليوم كانت النقاط المهمة عسكريا تحت رحمة حركة هاشم العطا وكسى الليل العاصمة والسودان كي يتيح للشيوعيين التحرك لاكمال مهمتهم، فاعلن قائد الانقلاب حظر التجول وحالة الطوارئ.
بمجرد انتصار حركة الرائد هاشم العطا ، ظهرت قيادات الحزب الشيوعي الى سطح الاحداث، وقام سكرتير الحزب الاستاذ عبد الخالق محجوب بزيارة الوفد المصري في فندق السودان وطمأنهم على عدم مشاركة البعث في الانقلاب وان الامر لا يعدو سوى حركة تصحيحية لحركة مايو. وظهر معه في تحركاته التجاني الطيب والرشيد نايل ومحمد ابراهيم نقد وآخرون ، اما الشفيع احمد الشيخ الذي احتفظ بعلاقات ودية مع الجناحين للحزب فقد حدد موقفه بشكل واضح تجاه تأييد الحركة الجديدة ودعا لموكب جماهيري ضخم بقيادة اتحاد العمال تأييدا للحركة التصحيحية ، وخرج الموكب في العاشرة من صباح الخميس 22 يوليو،حيث تحرك الموكب من ميدان ابوجنزير واتجه الى القصر الجمهوري حيث ساحة الشهداء التي خاطب فيها الموكب الرائد هاشم العطا والشفيع احمد الشيخ، كان هتاف الجماهير «طبقيون، امميون، سايرين في طريق لينين، يانميري ياجبان الشيوعيون في الميدان. عاش نضال الطبقة العاملة ، الخرطوم ليست مكة».
ثم انهالت برقيات التأييد للنظام الجديد من مختلف انحاء السودان بعد ان دان الامن و استتب للرائد هاشم العطا ، اصدر قرارا جمهوريا الغى بموجبه كل القرارات السابقة ونظم به السلطة الجديدة واجتمع بوكلاء الوزارات واوضح لهم بان حركته التصحيحية للاخطاء والانحرافات التي احدثها نميري ، واعلن تشكيل مجلس الثورة الجديد برئاسة المقدم بابكر النور وهاشم العطا نائبا له ، بموجب ذلك اصدر هاشم العطا قرارات لتأمين الثورة تم بموجبها تسريح جميع الطيارين العاملين بسلاح الطيران واخلى الطائرات من الوقود والسلاح من الذخيرة والصواريخ كما اعطى الخبراء الروس اجازة في منازلهم، واعتبر تسريح ضباط الطيران تسريحا نهائيا ، واعتقل اغلبهم ، في لندن التي كان يزورها المقدم بابكر النور والرائد فاروق حمد الله عقدا مؤتمرا صحفيا اجابا فيه على اسئلة الصحفيين بانهم لم يكونوا يؤقتون للثورة في هذا الوقت لكن الزميل هاشم العطا رأى تقديم الوقت ونجح فيه كما اكد المقدم بابكر النور بأنهم سيطبقون الاشتراكية العلمية ، لقى الانقلاب تأييدا خارجيا حيث كتبت مجلة الازمنة الحديثة السوفيتية في عددها الصادر يوم الاربعاء 21/7/1971 مقالا اكد تأييد الانقلاب وخطه اليساري التقدمي ، كما استقبل قادة الانقلاب وفدا مصريا يساريا بقيادة احمد حمروش رئيس تحرير مجلة روز اليوسف واحمد فؤاد مدير بنك مصر وكلاهما اصدقاء لقادة الحزب الشيوعي.
اعتقال رئيس مجلس الثورة
مهد الطريق لعودة نميري
علاقة الرئيس جعفر محمد نميري بالجماهيرية الليبية وقائد ثورتها العقيد معمر القذافي مهدت الطريق الى عودة نميري للحكم من جديد فبعد ان وصلت معلومات تفيد بان عضوي مجلس الثورة المقدم بابكر النور والرائد فاروق حمد الله على متن طائرة الخطوط الجوية البريطانية المتجهة الى الخرطوم عن طريق فرانكفورت ر وما، اعدت الترتيبات لانزال الطائرة في مطار بنينه ببنغازي كما اعد لاعتقال بابكر النور وفاروق حمد الله وحينما اشارت الساعة الى التاسعة من صباح الخميس 22/7/1971م كان كل شيء قد تم واعتقل الوفد واقلعت الطائرة بدونهم.
ما سهل عملية الاعتقال هو ان السفرية كانت عادية وان الحجة التي سبقت الاتصال بقائد الطائرة كانت تقول بضرورة الهبوط للتزود بالوقود ورغم صحة معلومات اغلاق مطار الخرطوم الا ان برج المراقبة كانت لديه الاوامر بفتح المطار لطائرتين ، طائرة الخطوط الجوية البريطانية التي تحمل الوفد . وطائرة الخطوط التشيكية التي تحمل عضو مجلس قيادة الثورة محمد محجوب عثمان الذي كان يتعالج هناك ، وما شجع السلطات الليبية على اعتقال الوفد هو وجود اللواء خالد حسن عباس بطرابلس يوجه النداءات للجيش السوداني باعتباره قائده العام ووزير الدفاع ونائب رئيس مجلس الثورة ، وقد كان خالد قبل مشاركته في انقلاب مايو ضابطامحترما بسلاح المدرعات وقد رقي استثنائيا الى رتبة اللواء وتولى قيادة الجيش ونائب رئيس مجلس الثورة بعد اقصاء بابكر عوض الله لاتجاهاته المؤيدة للحزب الشيوعي ، وكان خالد بهذه المواصفات يكتسب في نفوس جنوده وضباطه بسلاح المدرعات والجيش السوداني نفوذا متزايدا واعجابا بصفات عسكرية فيه واخلاقية عنده.
كان خالد حسن عباس على رأس وفد يضم وزيرين وثلاثة ضباط واحمد سليمان المحامي سفير السودان بموسكو ولما لم يتحصل الوفد على تأشيرة دخول من السفارة الروسية في لندن توجه الوفد الى الصين عن طريق يوغسلافيا التي وصلها يوم 17/7/1971م وقبل ان يغادر الوفد الى الصين وصلهم خبر الانقلاب ليقرر الوفد تغيير اتجاهه نحو القاهرة التي اجتمع فيها خالد بقائد الجيش المصري الفريق محمد احمد صادق مطالبا فيها باستخدام الجيش المرابط في قناة السويس ، وطلب طائرات لذلك ، ولكن الرئيس السادات رأى ان يتوجه خالد الى ليبيا ليبث منها نداءات للجيش حتى لا يتم احراج السلطات المصرية وان تتحرك قوات الجيش السوداني في قناة السويس عبر ليبيا . بقي ان نعرف ان هذه القوات وصلت يوم الجمعة 22/7/1971م بعد ان رجع النظام للحكم.
حينما كان المذيع ذو النون بشرى يقدم لقاء اذاعيا مع الشاعر محجوب شريف الذي كتب اناشيد مايو الثورية ، والمعروف ان محجوب شريف والفنان محمد وردي قدما العديد من الاناشيد التي تمجد نظام مايو.
وقبل ان يكمل محجوب شريف مقاطع قصيدته التي تبرأ فيها من مايو «لاك حارسنا لاك فارسنا» حتى انبرى المذيع عبد الرحمن احمد محمد صالح قاطعا الارسال موجها نداءات للجماهير للخروج للشارع وانقاذ الثورة من تدخل اجنبي ثم اذيع خبر اعتقال الوفد في ليبيا وانزال بابكر النور وفاروق حمد الله بالقوة.
وكانت الهتافات تقترب من القصر الجمهوري «عائد عائد يانميري» ووسط الرصاص المنهمر من هنا وهناك وصوت الدبابات قفز نميري فوق اسوار القصر الجمهوري بجلبابه الذي اعتقل به حاسر الرأس حافي القدمين وفي الطريق انتبهت الجماهير الى قائدها وحملته وهي تهتف حتى حمله احد المواطنين بعربته في طريقه للشجرة و قبل ان يصل الى الشجرة حملته دبابة المقدم صلاح عبد العال مبروك ومن المدرعات الى الاذاعة والتلفزيون معلنا عودة مايو ثم عاد الى كرسيه في القيادة العامة قائدا للجيش ورئيسا لمجلس الثورة .
</BLOCKQUOTE>
عدل سابقا من قبل الشمس في السبت 8 نوفمبر - 20:52 عدل 1 مرات